فلسفة القدر والغيب، في 24 أبريل 2016، (مجديات أخي الحبيب الراحل المقدم مجدي صقر، رحمه الله، وطيب ثراه)!

الحمد لله رب العالمين!


القدر هو إدارة الله للكون بمن فيه وما فيه، وإنجاز الأعمال واتّخاذ القرارات بالتقدير والحساب الدقيق. القدر هو أوامر الله المحسوبة بدقة على المخلوقين لتدبير أمورهم وتيسير شؤون حياتهم وتحديد الحدود والحقوق والواجبات. لقد اهتم العلماء والفلاسفة عبر اختلاف السنين والأقطار والثقافات والأديان بقضايا القضاء والقدر والغيب ومعرفة المستقبل، وكان السؤال الأهم والمتكرر: هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟ هل للإنسان إرادة فاعلة أم هو مجرد آلة تنفذ مخططا سابقا أعد له بعنايه؟ ويظهر هذا الخلاف -وربما الصراع- واضحا في كلا القولين الآتيين:
يقول شاعر:
مشيناها خطا كتبت علينا ومن كتبت عليه خطا مشاها
ويقول آخر:
وليس ينال المجد إلا ابن حرّة قليل افتكار في وقوع العواقب
حليف سرى جوّاب أرض تجاوزت به العيس أجواز القفار السباسب
تحيّر العامة والخاصة في أي القولين أحق وأدق وأوقع، وأخذت كل ثقافة وحضارة تدلي بدلوها في هذه المسألة (القدر والغيب)، وكانت لهم نتائج تقترب من الحق كثيرا أو قليلا، ولدينا في القرآن الكريم والسنّة النبويّة المطهّرة ما يحل كل هذه الإشكالات، مما يجعل المرء يتعجب من اختلاف علماء المسلمين في هذه القضيّة!
يمكننا تقسيم المخلوقات على ثلاثة أقسام:
1) مخلوقات حرة مُريدة مختارة، وهي التي لها إرادة ذاتيّة ولها القدرة على الاختيار بين البدائل كالإنس والجن.
2) مخلوقات ذات إرادة ذاتيّة، لكن ليس لها القدرة على الاختيار بين البدائل، وتدفعها الغريزة كالحيوانات.
3) مخلوقات ليس لها إرادة أو اختيار كالنبات والجمادات.
كما يمكننا تقسيم القضيّة محل البحث (القدر) على الأقسام الآتية:
1) القدر الحتم، أي أوامر الله المقدرة والمحسوبة بدقّة والتي لا يمكن تغييرها ولا تعديلها بحال، وهي كل الأحداث التي جرت في الكون قبل خلق الكائن الفرد وكذلك كل الأحداث التي تلي موته. ولا نعد أحدا من الموجودات مسؤولا بأي شكل من الأشكال عن القدر الحتم، وقدر الحتم يشمل كل المخلوقين، و يمكننا أن نصف قدر الحتم بالمطلق.
2 – القدر التفاعلي، إنّ قدر الله التفاعلي يخص بالأساس الكائن الحر المريد المختار، ويكون من الله ابتداء لاستفزاز العباد وحثهم على التفاعل مع الوجود من حولهم، ويكون كذلك نتيجة ورد فعل من الله من على تصرفات وأفعال المخلوقين المختارين الأحرار واختياراتهم. ويشمل القدر التفاعلي أربعة أقسام:
أ) قدر السنن الكونيّة، وبها يدفع الله الانسان ليتفاعل مع الكون الذي يعيش فيه، كالعمل بالزراعة والصناعة والتجارة وكذا السعي والسفر والبناء للحصول على الطعام والسلع وحماية نفسه.
ب) قدر الشرائع والقوانين السماويّة، يجب أن يسعى الإنسان لتعرّف الله، وإن كانت في ذلك مشقّة أرسل الله الأنبياء إلى الناس تساعدهم على الوصول إلى الله وتعلمهم الطريقة والشريعة والتي بها يكون نصح الله لعباده للطريقة الأمثل والكيفيّة الأفضل التي بها يعاملون أنفسهم والبيئة المحيطة بهم والكون من حولهم.
ج) قدر المشيئة الإلهيّة التفاعليّة، يكون بتوفيق الله لكل من أطاعه في “افعل” أو “لا تفعل”ØŒ ودعمه ومساندته وإعانته، ويكون أيضا بالتعسير والإرهاق والشقاء لكل من عصاه في أوامره الشرعيّة “افعل” أو “لا تفعل”.
د) قدر الذكر Ùˆ الدعاء، لأنّ الله حيي كريم شكور فإذا ذكره عباده حضر بينهم بصفاته العليّة ومنحهم القوّة وأعطاهم ما يريدون حتى إن غيّر القدر؛ “لولا أنّه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون”.
علم الغيب
إنّ علم الغيب من العلوم التي تشغل بال الكثير من الناس وتشكّل لهم أهميّة بالغة وتحقق لهم نفعًا كبيرًا، لأنه “لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء”Ø› لذا سعى الإنسان بكل طريقة مشروعة أو غير مشروعة لمعرفة الغيب، فكان من الطرق المشروعة التي يستخدمها الإنسان لتوقّع الأحادث المستقبليّة ليستكثر من الخير ويتجنب السوء والشر ما أمكنه:
1) الأرصاد الجوّية،
2) دراسة السوق وتوقّع حجم الطلب على السلع،
3) علم النفس ودراسة طبائع الناس ورد فعل الإنسان تجاه المواقف المختلفة،
4) علم الإحصاء والاحتمالات.
وعلوم كثيرة على هذا النحو تفيد الانسان إفادات كبيرة وهي من الدقّة بحيث يمكن التعويل والاعتماد عليها طبقا لمهارة مستخدم هذه العلوم ومدى اكتمال العلم لديه ومدى معرفته بحجم وعدد المتغيرات التي تؤثر في الأحداث محل البحث. ويمكن على سبيل الاحتياط إضافة علم الخط وعلم التنجيم وهو علم تأثير حركة النجوم والكواكب على الأحداث الدنيويّة فيما يخص الإنسان وانفعالاته والحيوان وسلوكه وكذلك الجمادات وما يمكن أن يطرأ عليها. ولا يمكننا التعويل على علم التنجيم؛ إذ المتغيرات التي تدخل في حساب أقدار الناس أكثر بكثير مما يعلمه علماء هذا العلم. ويعد التنجيم من العلوم الهابطة أي التي تعلمها الأنْبياء من الوحي السماوي ونزلت مكتملة وعلّموها الناس، وهي تتناقص مع مرور الأيام بنسيان العلماء شيئا فشيئا أسرار وخبايا هذا العلم.
و يمكننا أن نقسّم قضيّة الغيب ومعرفة الغيب على القسمين الآتيين:
1) الغيب، وهو كل مستور من المعلومات عن الكائن الحر المختار. وهذه المعلومات إمّا أن تكون بخصوص الأحداث التاريخيّة السابقة أو المستقبليّة أو عن خصائص وخبايا وحقائق الأشياء الموجودة حولنا في الطبيعة. ويعد علم الغيب من أهم العلوم التي تفيد الإنسان على المستوى العقدي والقيمي والأخلاقي، أو على المستوى العملي والمهني.
2) علم الله للغيب، وهو علم الله بكل الأقدار التي يمكن للمخلوق أن يختار من بينها، وكذلك علم الله بما يمكن أن يترتب على كل اختيار يختاره، وأيضا علم الله السابق بالخيار الذي سوف يختاره المخلوق فعلا. يقول الله: “تبّت يدا أبي لهب وتب”.
أمر الله النبي محمدًا -صلى الله عليه، وسلم!- بتبليغ عشيرته ودعوتهم إلى الله، فقام إلى الصفا، ونادى عشيرته واحدا واحدا، فلمّا اجتمعوا دعاهم إلى الإسلام، فتعجل عمه أبو لهب وسب النبي سبا مهينا لا يليق، قال: “تبا لك، ألهذا جمعتنا”Ø› فعجّل له الله العقوبة! إن سب النبي من الجرائم التي تغيّر القدر، فالإنسان في مهلة من نفسه طوال حياته ليناقش قضيّة الإيمان، إلا القطع بكفر من سب النبي مهما حاول الرجوع والتكفير عن ذنبه!
يحكي لنا الله في القرآن الكريم قصّة النبي يونس بن متّى -صلى الله عليه، وسلم!- ليعلمنا -سبحانه، وتعالى!- الكثير الكثير عن آلية ومنهجيّة وطبيعة العلاقة بين الله والمخلوقين عامة وبينه و بين الإنسان خاصة. كانت قرية في العراق تسمي نينوى، وكان يعيش بها النبي يونس وقومه الذين كانوا يعبدون غير الله. كلّف الله عبده ونبيّه يونس بن متّى إرشاد قومه وهدايتهم إلى الله وحده لا شريك له بالبلاغ الواضح السليم المفهوم مع الصبر عليهم والرفق بهم. عمل النبي يونس كل ما في وسعه لتبليغ دعوة الله إلى قومه، وبالغ في بذل الجهد، لكنّه بعد زمن من العمل الدؤوب لم يجد أذنًا واعيّة، ولم يطعه أحد من قومه، فحزن على ذلك حزنا شديدا، وغضب منهم، وقرر ترك المهمّة التي فشل فيها والهرب من القريّة التي أرسل إليها! سار النبي يونس إلى شاطئ البحر، وركب في سفينة هناك، وأبحرت به، وأثناء إبحارها كان حوت كبير يطارد السفينة، وأدرك من في السفينة أن هناك لعنة تطاردهم، فقرروا إلقاء أحد الركاب لهذا الحوت ليتلهى به ويبتعد عن السفينة، فأجرى الربّان بين الركاب قرعة على من الذي سيلقي بنفسه من السفينة لينجو الباقون، فكان النبي يونس، فأعاد القرعة المرة تلو المرة، فكانت تقع على النبي يونس، فألقى النبي يونس بنفسه في البحر، فما إن فعل حتى التقمه حوت. ولأن أجساد الأنبياء مصونة بقدر الله الحتمي لم يهضم الحوت النبي يونس. أدرك النبي يونس أنّه في محنة شديدة، فاستدعى من مخزون علمه مما علمه الله أن التهليل والتسبيح والاستغفار ينجّي المؤمن من المحن والمهالك؛ فنجّاه الله من هذه المحنة، ولفظه الحوت على الشاطئ، وأنبت الله عليه شجرة القرع التي تحميه من أشعّة الشمس ومن الذباب. عاد النبي يونس إلى قومه وقريته، وإكراما من الله له أدخل الله الإيمان في قلوب قومه عنوة، لكن لم ينفعهم هذا الإيمان في الحياة الدنيا، ولم يحقق لهم الاستقرار والسكينة المفترضة بدخول الإيمان القلوب، ولكن قدّر الله لهم قدر سوء مقابل هذا الإيمان السهل القدري الذي وهبهم الله لهم. من هذه القصّة الموجزة نتعلّم الكثير عن الله والقدر والغيب:
1) أن الله خلق المخلوقين بقدرته، وتكفّل لهم بالرزق، لكن يجب على الإنسان أن يسعى بجد حتي يأتيه رزقه الذي قدّره الله له، وذلك بإعمال عقله وتشغيل بدنه؛ يقول الله: “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأنّ سعيه سوف يرى”. فأنشأ الإنسان المجتمعات والدول لكي ينظم نفسه ويتعاون فيما بينه لتحقيق مهمة البقاء وعمارة الأرض. جعل الله للإنسان خطة من الرزق قبل أن يولد، يمكن تغييرها حسب عمل الإنسان، وطبقا لقواعد التغيير التي جعلها الله في قدره.
2) أن الله ألزم الإنسان بعبادته، ولخصوصيّة الإنسان كان هذا الإلزام اختيارا لا قدرًا حتمًا كما هو حال المخلوقات الأخرى المريدة وغير المريدة؛ لذا يلزم الإنسان أن يتعلم كيف يعبد الله، وفي حال اختفاء العلم الخاص بمعرفة الله أرسل الله إلى الناس الأنبياء ليجدّدوا لهم علمهم بالله ويساعدوهم على تعرف الطريقة المثلى لعبادته. كان من الممكن لقوم النبي يونس أن يؤمنوا بالله بإرادتهم الحرة، لكنّهم أبوا ذلك، واختاروا القدر الصعب.
3) أن الله أرسل الأنبياء للناس ليهدوهم إلى الله، وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل العلمي الهادئ، وعرّف الأنبياء مهمتهم، وهي اختصارا البلاغ المبين؛ فليست مهمة الأنبياء إدخال الإيمان في قلوب الناس عنوة؛ “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”ØŒ لكن بعض الأنبياء يحمّل نفسه فوق طاقتها وفوق مراد الله منه، ويحزن حزنا شديدا إذا رفض الناس كلّهم أو بعضهم الإيمان بالله، وهكذا كانت حال النبي يونس الذي غضب غضبا شديد من كون جهوده لم تثمر مع مرور الأيام؛ فضاق بقومه، وضاق من الوجود بينهم، فتركهم، وهرب منهم بعد أن أنذرهم عقاب الله لهم. لو كان النبي يونس التزم بالخطة التي أمره الله بها لما أخطأ وما كان عوقب.
4) أنّ الله يعاقب كل مخطئ على قدر خطئه، مهما كان نبيّا مكرّما معصوما أو إنسانا عاديا. عاقب الله النبي يونس على خطئه بأن سكن بطن الحوت، وهو بالطبع أضيق من الحياة بين قومه التي ضاق هو بها!
5) أن يونس بن متّى نبي معلم؛ لذا عرف أن ذكر الله والاستغفار والتوبة تخرج المؤمن من الضيق ومن قضاء السوء إلى سعه رحمه الله؛ قال الله عن النبي يونس في بطن الحوت: “لولا أنّه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون”Ø› فبالعلم الحق إذن يمكن للإنسان أن يغيّر قدره، طبقا للقوانين والسنن الكونيّة والشرائع السماويّة، دون معارضة لها.
6) أنه كان من المفترض أن يسعد قوم النبي يونس عندما أطاعوا الله وآمنوا به، لكنّهم عندما آمنوا بالله فتح الله عليهم أبواب الشقاء والألم؛ ذلك أنّهم لم يؤمنوا باختيارهم الحر، بل بفعل الله في قلوبهم.
يمكننا إذن استنتاج أن الله يعلم كل شيء؛ لقد خلق الله اللّوح المحفوظ وكتب فيه كل الأقدار التي يمكن حدوثها وكل الخيارات التي يمكن أن يختارها المخلوقون أفرادا وجماعات. كتب في اللّوح المحفوظ كل علم الغيب الذي يمكن حدوثه لكل المخلوقين حتى نهاية الوجود. إنّ كل يوم يجيء على الإنسان يكون أمامه عدّة اختيارات ليختار أحدها، ولأنّ الله يعلم كل الاختيارات المتاحة أمام الانسان رتّب قدرًا وخطّة لكل خيار على حدة؛ فإذا اختار فعل شيء معين دون غيره فتلقائيّا تُمحى كل الخيارات والمعلومات المدوّنة في اللّوح المحفوظ عن الاختيارات التي لم يخترها وما كان يترتب عليها من أقدار؛ يقول الله: “يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب”ØŒ أي يمحو الله كل أحداث وأقدار مكتوبة في اللّوح المحفوظ لم تحدث فعلا ويثبت على المخلوق ما حدث منه بالفعل:
– كان القدر مرسوما والغيب مكتوبا لقوم يونس بالخير والسعادة لو أنّهم آمنوا أو التعاسة والشقاء لو أنّهم كفروا، وهم يختارون بين القدرين؛ فإذا اختاروا أحد القدرين محي من اللّوح المحفوظ القدر الغيب الذي كان مكتوبا لاختيارهم الآخر الذي لم يختاروه.
– كان القدر مرسوما والغيب مكتوبا للنبي يونس لو أنّه بقي مع قومه أو أنّه ضجر منهم وتركهم.
– كان الغيب والقدر واضحا لو أن النبي يونس ذكر الله في بطن الحوت وقبل الله اعتذاره أو لو أنّه لم يذكر الله أو لو أنّ الله لم يقبل اعتذاره.
مما تقدّم يتّضح لنا أنّ كل الأقدار والاحتمالات متاحة أمام الانسان، وأنّه هو الذي يختار منها ما يرضيه، وسيتحمّل -شاء أم أبى- نتيجة اختياره؛ فلا يجوز للإنسان التنطّع بتحميل أخطاءه على اختيار الله، بل يجب عليه أن يعلم أن لله عمله الذي سيقوم به وسيؤديه على الوجه الأكمل؛ فلا يشتغل بذلك ولا يهتم، وأنّ هناك عملًا للإنسان (الفرد أو الجماعة)، يجب عليه أن يهتم به ويؤديّه على الوجه الأكمل قدر استطاعته، والله أعلم!

Related posts

Leave a Comment